صناعة الوعي- سلاح العصر للسيطرة على العقول وتغيير الحقائق
المؤلف: يوسف بن طراد السعدون11.24.2025

في عصرنا الحالي، بات ترويج الأباطيل وتعميم الجهل، من خلال التلاعب بالوعي الجمعي أو هندسة الرأي العام، سلاحًا فتاكًا يُستغل على نطاق واسع لتعزيز المكاسب وتحقيق النفوذ. يتم استخدامه لتشويه الحقائق والسيطرة على الأفكار، عبر نشر معلومات زائفة وقيم هدامة، بهدف التأثير على عقول ومعتقدات الشعوب، وتقويض قناعاتها الراسخة وثوابتها، وبالتالي إخضاعها للهيمنة. وقد ذاع صيت هذا المفهوم خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، كوصف لسياسات إدارته الدعائية المكثفة. ونظرًا لأهمية التحكم في الوعي الجمعي كسلاح ذي تأثير بالغ، تبنّت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) هذا النهج في عام 2004، وأنشأت في عام 2022 إدارة متخصصة تحت مسمى (IPMO) "مكتب إدارة التأثير والتصور".
وهذا بدوره يفسر الانحرافات الفكرية والثقافية والاجتماعية المتسارعة التي تجتاح مجتمعات العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، وتقوض أسسها وقيمها الجوهرية. والمراقبون عن كثب يدركون تمام الإدراك، وجود قوى خفية عالمية (تسيطر على وسائل الإعلام والاقتصاد والمال والسياسة) توجه العمليات الدولية لنشر الفساد الأخلاقي وتقويض القيم والأعراف والتقاليد المتوارثة، سعيًا للسيطرة المطلقة والهيمنة الشاملة.
وقد بلغت حدة تلك الانحرافات التدميرية ذروتها في عصرنا الراهن، مما يثير المخاوف من أن: "ينحدر الإنسان إلى العصر الحجري وبربرية العصور الوسطى، بل وأكثر من ذلك، إلى مرحلة أدنى من تلك التي وصل إليها الحلزون في نهاية العصور الجليدية. فليس القنبلة النووية هي ما سيقضي على العالم كما تروج الصحف، بل الابتذال والإفراط في التفاهة اللذان سيحولان الواقع إلى نكتة سخيفة. لقد أصبحت قيمة المظهر تعادل قيمة الجوهر، والانحدار الأخلاقي يستهوي البشر، وهذا هو الواقع المرير الذي نعيشه في حقبة الدجل... والأحمق هو من يعطل عقله، ويستسلم لشهواته، متوهمًا بأنه يتصرف باسم الخير وأنه دائمًا على صواب"، على حد تعبير الكاتب الإسباني كارلوس زافون في روايته الشهيرة "ظل الريح".
ومما لا شك فيه أن العولمة، ووسائل التقنية والاتصال المعاصرة، والانبهار الأعمى بالحضارة الغربية، والثقة المفرطة بمستشاريها وخبرائها، قد سهّلت تنفيذ مخططات هندسة الرأي العام في الدول النامية. وهذا ما يثير القلق بشأن مستقبل الأجيال القادمة في هذه الدول. الأمر الذي يستدعي منها التنبه إلى أن إضعافها، الذي يسعى إليه الأعداء، يمكن أن يتم من خلال: 1. إذكاء الفتن، عن طريق إيجاد مغالطات للقيم والأعراف. ويعتمد انتشار هذه المغالطات على مدى استعداد المجتمع لتقبل الأفكار أو الأمور الجديدة كمسلمات بديهية تتناسب مع متطلبات الحياة، حتى لو كانت مجرد أوهام تتعارض مع التراث والمبادئ الأصيلة. وهذا ما يسمى بأرضية الجهل الجماعي. وإذا ما وقع الناس أسرى لقيود ذاك الجهل، فسوف يرتبط مصيرهم حتمًا بما يقرره الآخرون لهم. وتثبت لنا التجارب التاريخية أن الأفراد والدول الذين لا تسترشدهم مبادئهم وقيمهم، سيخسرون بالتأكيد مصالحهم وسيادتهم.
2. وعندما تشيع الأوهام بين الناس على نطاق واسع، ويتقبلها الجمهور ويقتنعون بمزاياها المزعومة، تتلاشى الرغبة في انتقادها وتبيان عيوبها، خشية الظهور ضمن الفئة القليلة "غير الواعية" المتهمة بضآلة القدرة على الإدراك كبقية الناس. ولا شك أن هذا يفضي إلى تدني مستويات الوعي والقدرة لدى أصحاب الشأن، كالآباء والأمهات والمسؤولين والمفكرين، ويصبحون غير قادرين على الحد من انتشار الأوهام والجهل.
3. وفي نهاية المطاف، يدفع الجهل والعناد المقيت، إلى التمادي في السير في دروب الضلال وراء الأوهام، ويمهد الطرق للفساد والخديعة والاحتيال. فأتباع الجهل دائمًا ما يكونون متحمسين له، معتقدين أن العقلاء أغبياء، وأنهم هم المصلحون المدركون للحقيقة. لذلك يقولون إن الفرق بين الحكيم والجاهل، يكمن في أن الأول يناقش في الرأي، بينما الثاني يجادل في الحقائق البديهية.
وقد ضمن الكاتب الدنماركي الشهير هانس أندرسن، تلك المراحل في ثنايا قصته الخرافية "بدلة القيصر الجديدة" المنشورة عام 1837، حيث ذكر: كان هناك قيصر مولعًا بالملابس الجديدة، فقدم إلى مدينته غريبان زعما قدرتهما على حياكة بدلة فريدة من نوعها، تتميز بخيوط خفية لا يراها الحمقى وعديمو الكفاءة. فأعجب القيصر بقدرتهما، التي شاعت على ألسنة العامة، وتعاقد معهما، وزودهما بكميات وافرة من الذهب والحرير اللازمين لخياطة وتطريز البدلة الجديدة. وأمضى الغريبان أيامًا يتظاهران بأنهما يقومان بعملية النسيج، ويحركان أنوالهما الفارغة في الهواء. وحين كان يأتي أعوان القيصر لمتابعة سير إنجاز البدلة، كانوا يرون الأنوال فارغة بينما يتظاهر المحتالان بالعمل، فيمتنعون عن الإفصاح عن حقيقة ما يرونه، خشية أن يتهمهم الناس بالغباء وعدم الصلاحية لهذا المنصب. وبعد فترة، أعلن الخياطان عن انتهائهما من المهمة، فحضر القيصر ونزع ملابسه ليرتدي بدلته الجديدة. وتظاهرا بإلباس القيصر البدلة تمثيلاً بالهواء. وعندما نظر القيصر في المرآة رأى نفسه عارياً، ولكنه سار إلى مجلسه متباهيًا، لكي لا يظن أحد أنه أحمق. وكان أعوانه ينظرون إليه عارياً أمامهم، ويثنون على جمال البدلة الجديدة، ولم يجرؤ أحد منهم على قول الحقيقة خوفاً من أن يبدو أبله عديم الكفاءة. وعندئذ استلم المحتالان أجرهما وحملا الذهب والحرير وغادرا المدينة.
والقيصر في هذه الحكاية هو لقب وصفي لا يقتصر على منصب محدد، بل إنه ينطبق على جميع فئات المجتمع: كالآباء والأمهات في أسرهم، والأساتذة والموجهين في مدارسهم، والموظفين والقادة الإداريين في مؤسساتهم، والمفكرين والوجهاء والإعلاميين فيما يقولون ويكتبون. وبدلة القيصر ترمز إلى القيم والمبادئ والأخلاق والسلوكيات والفكر. والعبرة المستخلصة هنا، تتلخص في: أولاً: لا تصدق كل ما يُقال، قبل أن تتحقق من مضمونه. ولا تمنح ثقتك المطلقة لأي شخص، وخاصة الغرباء، قبل أن تختبر صدق نواياهم.
ثانياً: ليس كل جديد مستحسنًا ويتوجب اعتماده، فبعض الجديد قد يؤدي إلى التعرية وفقدان الهوية. فكما أن التمسك بالقديم البالي غير محمود، فإن التجديد الأعمى أسوأ وأخطر.
حفظ الله وطننا العزيز، من مكائد صناعة الرأي العام الدولية الخبيثة، وأدام عز قادة الأمر الأوفياء، وأعانهم على تحقيق طموحاتهم في خدمة الوطن ورفعة شأنه.
خاتمة: من درر الشاعر عبدالله المسعودي الهذلي:
من قطع من يمينه ما شبع بالشمال
لو يمرق على اللي له ثنعشر عصيب
ومن يبا يشرب الماء من سراب الرمال
قاحله ماحله ما به عجب يا عجيب
الغشيم ما يدري أن النخل له سلال
يحسب انه جريد أخضر وتمر رطيب
ما نبا الكيله اللي ناقصه في الكيال
جوع بطني عن السوق الردي ما يعيب.
وهذا بدوره يفسر الانحرافات الفكرية والثقافية والاجتماعية المتسارعة التي تجتاح مجتمعات العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، وتقوض أسسها وقيمها الجوهرية. والمراقبون عن كثب يدركون تمام الإدراك، وجود قوى خفية عالمية (تسيطر على وسائل الإعلام والاقتصاد والمال والسياسة) توجه العمليات الدولية لنشر الفساد الأخلاقي وتقويض القيم والأعراف والتقاليد المتوارثة، سعيًا للسيطرة المطلقة والهيمنة الشاملة.
وقد بلغت حدة تلك الانحرافات التدميرية ذروتها في عصرنا الراهن، مما يثير المخاوف من أن: "ينحدر الإنسان إلى العصر الحجري وبربرية العصور الوسطى، بل وأكثر من ذلك، إلى مرحلة أدنى من تلك التي وصل إليها الحلزون في نهاية العصور الجليدية. فليس القنبلة النووية هي ما سيقضي على العالم كما تروج الصحف، بل الابتذال والإفراط في التفاهة اللذان سيحولان الواقع إلى نكتة سخيفة. لقد أصبحت قيمة المظهر تعادل قيمة الجوهر، والانحدار الأخلاقي يستهوي البشر، وهذا هو الواقع المرير الذي نعيشه في حقبة الدجل... والأحمق هو من يعطل عقله، ويستسلم لشهواته، متوهمًا بأنه يتصرف باسم الخير وأنه دائمًا على صواب"، على حد تعبير الكاتب الإسباني كارلوس زافون في روايته الشهيرة "ظل الريح".
ومما لا شك فيه أن العولمة، ووسائل التقنية والاتصال المعاصرة، والانبهار الأعمى بالحضارة الغربية، والثقة المفرطة بمستشاريها وخبرائها، قد سهّلت تنفيذ مخططات هندسة الرأي العام في الدول النامية. وهذا ما يثير القلق بشأن مستقبل الأجيال القادمة في هذه الدول. الأمر الذي يستدعي منها التنبه إلى أن إضعافها، الذي يسعى إليه الأعداء، يمكن أن يتم من خلال: 1. إذكاء الفتن، عن طريق إيجاد مغالطات للقيم والأعراف. ويعتمد انتشار هذه المغالطات على مدى استعداد المجتمع لتقبل الأفكار أو الأمور الجديدة كمسلمات بديهية تتناسب مع متطلبات الحياة، حتى لو كانت مجرد أوهام تتعارض مع التراث والمبادئ الأصيلة. وهذا ما يسمى بأرضية الجهل الجماعي. وإذا ما وقع الناس أسرى لقيود ذاك الجهل، فسوف يرتبط مصيرهم حتمًا بما يقرره الآخرون لهم. وتثبت لنا التجارب التاريخية أن الأفراد والدول الذين لا تسترشدهم مبادئهم وقيمهم، سيخسرون بالتأكيد مصالحهم وسيادتهم.
2. وعندما تشيع الأوهام بين الناس على نطاق واسع، ويتقبلها الجمهور ويقتنعون بمزاياها المزعومة، تتلاشى الرغبة في انتقادها وتبيان عيوبها، خشية الظهور ضمن الفئة القليلة "غير الواعية" المتهمة بضآلة القدرة على الإدراك كبقية الناس. ولا شك أن هذا يفضي إلى تدني مستويات الوعي والقدرة لدى أصحاب الشأن، كالآباء والأمهات والمسؤولين والمفكرين، ويصبحون غير قادرين على الحد من انتشار الأوهام والجهل.
3. وفي نهاية المطاف، يدفع الجهل والعناد المقيت، إلى التمادي في السير في دروب الضلال وراء الأوهام، ويمهد الطرق للفساد والخديعة والاحتيال. فأتباع الجهل دائمًا ما يكونون متحمسين له، معتقدين أن العقلاء أغبياء، وأنهم هم المصلحون المدركون للحقيقة. لذلك يقولون إن الفرق بين الحكيم والجاهل، يكمن في أن الأول يناقش في الرأي، بينما الثاني يجادل في الحقائق البديهية.
وقد ضمن الكاتب الدنماركي الشهير هانس أندرسن، تلك المراحل في ثنايا قصته الخرافية "بدلة القيصر الجديدة" المنشورة عام 1837، حيث ذكر: كان هناك قيصر مولعًا بالملابس الجديدة، فقدم إلى مدينته غريبان زعما قدرتهما على حياكة بدلة فريدة من نوعها، تتميز بخيوط خفية لا يراها الحمقى وعديمو الكفاءة. فأعجب القيصر بقدرتهما، التي شاعت على ألسنة العامة، وتعاقد معهما، وزودهما بكميات وافرة من الذهب والحرير اللازمين لخياطة وتطريز البدلة الجديدة. وأمضى الغريبان أيامًا يتظاهران بأنهما يقومان بعملية النسيج، ويحركان أنوالهما الفارغة في الهواء. وحين كان يأتي أعوان القيصر لمتابعة سير إنجاز البدلة، كانوا يرون الأنوال فارغة بينما يتظاهر المحتالان بالعمل، فيمتنعون عن الإفصاح عن حقيقة ما يرونه، خشية أن يتهمهم الناس بالغباء وعدم الصلاحية لهذا المنصب. وبعد فترة، أعلن الخياطان عن انتهائهما من المهمة، فحضر القيصر ونزع ملابسه ليرتدي بدلته الجديدة. وتظاهرا بإلباس القيصر البدلة تمثيلاً بالهواء. وعندما نظر القيصر في المرآة رأى نفسه عارياً، ولكنه سار إلى مجلسه متباهيًا، لكي لا يظن أحد أنه أحمق. وكان أعوانه ينظرون إليه عارياً أمامهم، ويثنون على جمال البدلة الجديدة، ولم يجرؤ أحد منهم على قول الحقيقة خوفاً من أن يبدو أبله عديم الكفاءة. وعندئذ استلم المحتالان أجرهما وحملا الذهب والحرير وغادرا المدينة.
والقيصر في هذه الحكاية هو لقب وصفي لا يقتصر على منصب محدد، بل إنه ينطبق على جميع فئات المجتمع: كالآباء والأمهات في أسرهم، والأساتذة والموجهين في مدارسهم، والموظفين والقادة الإداريين في مؤسساتهم، والمفكرين والوجهاء والإعلاميين فيما يقولون ويكتبون. وبدلة القيصر ترمز إلى القيم والمبادئ والأخلاق والسلوكيات والفكر. والعبرة المستخلصة هنا، تتلخص في: أولاً: لا تصدق كل ما يُقال، قبل أن تتحقق من مضمونه. ولا تمنح ثقتك المطلقة لأي شخص، وخاصة الغرباء، قبل أن تختبر صدق نواياهم.
ثانياً: ليس كل جديد مستحسنًا ويتوجب اعتماده، فبعض الجديد قد يؤدي إلى التعرية وفقدان الهوية. فكما أن التمسك بالقديم البالي غير محمود، فإن التجديد الأعمى أسوأ وأخطر.
حفظ الله وطننا العزيز، من مكائد صناعة الرأي العام الدولية الخبيثة، وأدام عز قادة الأمر الأوفياء، وأعانهم على تحقيق طموحاتهم في خدمة الوطن ورفعة شأنه.
خاتمة: من درر الشاعر عبدالله المسعودي الهذلي:
من قطع من يمينه ما شبع بالشمال
لو يمرق على اللي له ثنعشر عصيب
ومن يبا يشرب الماء من سراب الرمال
قاحله ماحله ما به عجب يا عجيب
الغشيم ما يدري أن النخل له سلال
يحسب انه جريد أخضر وتمر رطيب
ما نبا الكيله اللي ناقصه في الكيال
جوع بطني عن السوق الردي ما يعيب.
